مقدمة لمجال تنظيم المعرفة

كيف أسست الكتب التراثية لتنظيم المعرفة

سأبدأ هذه التدوينة بفقرة من مقدمة كتاب صيد الخاطر للإمام ابن الجوزي:

وفي هذا الاسم توفيق عجيب: ذلك أن الخواطر لا تفتأ تمر على الذهن، كأنها الطيور التي تجوز سماء الحقل، تراها لحظة ثم تفتقدها، فكأنك ما رأيتها، فإذا أنت اصطدتها وقيدتها ملكتها أبدًا. لذلك جعل المؤلف هذا الكتاب (قيدًا لصيد الخاطر) فكان الاسم فيه نفحة من نفحات العبقرية. وقد قلّده فيه أحمد أمين فسمّى ديوان مقالاته فيض الخاطر وشتان ما هما.

ولو أن كل عالم، بل لو أن كل متعلم قيّد ما يمر بذهنه من الخواطر لكان من ذلك ثروة له وللناس: يعود هو بعد سنين إلى ما كتب، فيرى فيه تاريخ تفكيره، ويجد فيه ما افتقد من نفسه. والإنسان أبدًا في تبدل، يذهب منه (شخص) ويولد (شخص) وحينما تقرأ وأنت (شيخ) خواطرك التي سجلتها وأنت (شاب) تجد شيئًا غريبًا عنك، كأنك ما كنت أنت صاحبه، وكأنه خطر على بال غيرك. ثم إنه إن كان عالمًا أو مفكرًا، كان من هذه الخواطر كتاب علم وأدب وفن ككتاب ابن الجوزي

صيد الخاطر للإمام ابن الجوزي

تعجّبت من هذه الفقرة عندما قرأتها، ففيها خلاصة مبادئ تنظيم المعرفة التي ألّف فيها عشرات الكتب حتى الآن وأنتج عنها آلاف الفيديوهات والمقالات.

من المبادئ الواضحة في الفقرة السابقة:

أولًا: أنه لا يمكن الاعتماد على الذهن في الاحتفاظ بالخواطر وتذكرها لاحقًا

ذلك لأنها كالطير، تمر بك لحظة فإن لم تقيدها فقدتها أبدًا. على الجهة الأخرى: إن أنت قيدت هذه الخواطر، ملكتها أبدًا. وهذا من أسس تنظيم المعرفة أو ال personal knowledge management بل من أول مبادئها.

فإذا اتبعنا طريقة تياجو فورتي (Tiago Forte) -مؤلف كتاب “كيف تبني عقلا ثانيا” ومبتكر طريقة بارا في تنظيم الملفات الرقمية- التي يختصرها في كلمة CODE سنلاحظ أن أول حرف هو C والذي يرمز ل Capture أو دوِّن

ولو أنا تأملنا قليلًا لوجدنا أنها من البديهيات. فكيف ستنظم ما ليس موجودًا أصلًا؟ كيف ستطبق التقنيات الخاصة بتنظيم المعرفة وتستخدم أدواتها إن لم يكن لديك معرفة أصلا؟

طبعا هذا يقودنا لسؤال فلسفي: ما هي المعرفة؟ سأجيب عن هذا السؤال في تدوينة منفصلة إن شاء الله. لكن لنأخذ بأبسط التعاريف مؤقتا: إدراك الشئ على ما هو عليه

ثانيًا: أن تدوين الخواطر ضرورة لكل عالم بل ولكل متعلم

وهذا المبدأ هو أساس المدونة الحالية والموقع بأكمله. فإنني أهدف بكتاباتي إلى التبحّر في كل ما يتعلق بالمعرفة وإدارتها وتنظيمها خصوصًا الجانب الشخصي منها والمتعلق بالأفراد

فمن فوائد تدوين خواطرك وأفكارك أنها توثيق لمراحل نموك وتطورك. فأنت لا تكتب الفكرة فقط، بل تكتب معها طريقة تفكيرك ورؤيتك للعالم بل وأسلوب كتابتك ومستوى مهاراتك اللغوية والأدبية

أخيرًا

لدي الكثير من المواضيع والتفاصيل التي أود الكتابة عنها هنا وشرحها على قناتي، لكن في نفس الوقت أحاول تجنب المواضيع المتقدمة والتحدث حصرًا عن الأدوات والتقنيات، فهي في تغير دائم بتغير الأحوال والأزمان

لذلك سألتزم هنا لفترة بالتحدث عن المبادئ والأصول تأسيسًا لهذا الموضوع. وبالتوازي ستجد شروحات على قناتي للتفاصيل التقنية وكيفية تطبيق هذه المبادئ عمليًا. لذلك فلو كنت مهتمًا بتنظيم معرفتك، فكنت طالبًا أو صانع محتوى أو أكاديميًا في أي مجال علمي أو شخصًا يحب العلم ويعلم نفسه بنفسه فستجد في هذا المحتوى الإفادة إن شاء الله

شارك التدوينة مع من تحب

5 تعليقات

  1. هذا المقال أعجبني جدًا بارك الله فيك أحب المقالات التي تربط بين الأشياء التي تبدو لأول وهلة متباعدة مثل الماضي والحاضر والمستقبل.

    • صحيح. أنا تفاجئت بهذه الفقرة أثناء قرائتي للكتاب حتى أنني وجّهت قرائاتي للكتب التراثية آملا في إيجاد المزيد. سعيد أن المقال أعجبك أستاذ يونس

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *